وجة الدكتور محمد اليمني ، خبير في العلاقات الدولية ، تحية لصمود غزة. تحية للشعب الفلسطيني الصامد. تحية لأبطال الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، إنتفاضة الرصاص والإرادة. تحية للبراعم التي تحمل مشعل الطريق إلى المستقبل. ولا مستقبل للفلسطينيين بغير ممارسة حقهم في تقرير المصير، واختيار المكافئ السياسي الوطني الديمقراطي لصمودهم. ومن الضروري أن ننبه هنا إلى أن الدولة الفلسطينية المنشودة، بعد كل التضحيات، المستمرة منذ أكثر من 100 عام، يجب أن تكون “المكافئ الديمقراطي” سياسيا وتنمويا لنوعية الشعب الفلسطيني المناضل، وليست دولة على مقاس “السلطة الوطنية الفلسطينية” أو “حماس” أو “الجهاد الإسلامي” أو غيرها من الفصائل وجماعات المصالح الخاصة.
اقرا ايضا .. بعد تدخل مصر.. موافقة الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على وقف إطلاق النار
وأضاف ، أن هذا المكافئ الديمقراطي للكفاح الوطني الفلسطيني يحتاج إلى مزيد من الجهد والعرق والدم، لأن طبيعة الدولة المنشودة تتناقض مع الحقائق السياسية القائمة في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي إسرائيل وتستلزم تغييرها. الدولة الفلسطينية المنشودة يجب أن تقوم على أسس التحرر من الاحتلال والتسلط، وبناء الديمقراطية والتعايش والسلام. مثل هذه الدولة ستحصل على تأييد القوى الديمقراطية في العالم، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة وفي أوروبا. ولا يرتبط الجدل حول مستقبل القضية الفلسطينية بإقامة الدولة الديمقراطية فقط، وإنما يرتبط أيضا برؤية واضحة لمفهوم الأمن والتعايش بين شعبين، سواء كانا يسكنان في دولة واحدة أو في دولتين متجاورتين. وإذا لم يتم حسم العلاقة بين الأمن و التعايش، فإن إقامة دولة فلسطينية لن يكون مشروعا للسلام تؤيده المنطقة والعالم، ولن يقدر على تحقيقها الشعب الفلسطيني بمفرده، خصوصا في غياب مشروع سياسي مستقل حر من الوصاية.
وتابع إن صمود الشعب الفلسطيني جعل العنف الإسرائيلي ضد المقاومة بلا قيمة، و وضع المشروع الإسرائيلي لإبادة الهوية القومية الفلسطينية في مزبلة التاريخ. الاستنتاج الكبير الذي يمكن أن نستخلصه بثقة واطمئنان من العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في غزة “عملية الدرع والسهم”، والعملية الفلسطينية المقابلة “عملية ثأر الأحرار” ، هو تأكيد حقيقة أن استراتيجية الردع الإسرائيلية سقطت. كل عملية عسكرية إسرائيلية جديدة تؤكد فشل استراتيجية الردع، وتضيف إليها فشلا جديدا.
وأكمل :” تقوم هذه الاستراتيجية التي تتبناها إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، سواء في الضفة أو القطاع على ثلاثة عناصر رئيسية: الأول هو القبضة العسكرية الثقيلة، والرد بقوة مضاعفة على أي عملية عسكرية فلسطينية، مع استهداف قطع الرؤوس. العنصر الثاني هو تفتيت وتقسيم إرادة المجهود العسكري الفلسطيني، والعمل على عزل السلطة الوطنية الفلسطينية عن حركة الكفاح المسلح، وعزل كل فصيل عسكري فلسطيني عن الآخر، بحيث لا تواجه إسرائيل جبهة عسكرية موحدة، وإنما تقف ضد فصائل متفرقة أو متناحرة. أما العنصر الثالث فيتمثل في تدمير القواعد التي يمكن أن يقوم عليها حل الدولتين في المستقبل، بحيث يتحول يوما بعد يوم إلى مجرد حلم طوباوي لا أرض له ليقوم عليها أو يتجسد. وقد أثبتت العقود الماضية أنه على الرغم من أن إسرائيل استطاعت فعلا تحقيق بعض المكاسب، بإضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية، وتفتيت إرادة الكفاح المسلح بخلق تناحرات بين الفصائل المختلفة، إلا أنها لم تنجح أبدا في القضاء على هذه الارادة أو على إيمان الشعب الفلسطيني بنضاله للحصول على حق تقرير المصير.
وأسترسل :” لكننا يجب أن نعترف أيضا بأن الشعب الفلسطيني لا يواجه استراتيجية الردع الإسرائيلي وحدها، وإنما يواجه أيضا استراتيجية للتغييب السياسي، والحرمان من المشاركة في حق تقرير المصير السياسي داخليا. ويكفي للدلالة على ذلك أن الفلسطينيين لم يختاروا ممثليهم السياسيين منذ انتخابات 2006 التي أسفرت عن تقسيم الارادة السياسية الفلسطينية إلى إرادتين: السلطة الوطنية في رام الله وحكومة حماس في غزة. وتتذرع كل منهما باستمرارها في التسلط بزعم مقاومة الاحتلال. ومن ثم فإن كلا منهما، تجد شرعيتها في استمرار الاحتلال، تماما كما يجد رجل الأمن الفاسد مصلحتة في استمرار المجرمين. هذا لا يمس أبدا تضحيات الشعب الفلسطيني الذي يحارب فعليا على جبهتين: جبهة مواجهة الاحتلال والقتل والمصادرة والاستيطان، وجبهة مواجهة التسلط والفساد التي تتمثل في إدارتين غير منتخبتين منذ 17 عاما.
ولفت الى أن العمليات المسلحة، سواء كانت بين جيوش نظامية، أو بين جماعات مسلحة غير حكومية، لا يمكن أبدا عزلها عن سياقها السياسي، وهذا السياق السياسي هو الذي يحدد طبيعتها. وما تزال العمليات المسلحة الفلسطينية تكتسب طابعا سياسيا كفاحيا، يستهدف الحصول على حق تقرير المصير بإزالة الاحتلال والاستيطان والتسلط. في هذا السياق يكون التأييد الشعبي المحلي والإقليمي والعالمي لحركة الكفاح المسلح قويا ومستداما، غير قابل للاهتزاز. ولهذا يجب على القوى السياسية الفلسطينية ألا تعزل عملياتها العسكرية عن سياقها السياسي التحرري، حتى لو ارتكب الطرف الآخر أعمالا عدوانية استفزازية. وفي كل الأحوال يجب الرد على هذه الأعمال الاستفزازية بحملة سياسية قوية، تكون بمثابة الغطاء السياسي لعمل عسكري قادم. أما إذا دارت العمليات العسكرية في غير سياقها السياسي، فإنها تعتبر أعمالا إرهابية، لا شبهة في ذلك سواء كانت بواسطة قوات نظامية أو غير حكومية. وتحتاج العملية العسكرية الأخيرة اعتبارا من 9 من الشهر الحالي حتى مساء 13 منه أن نلقي عليها نظرة من الجانب الآخر أيضا، لمحاولة استخلاص دروسها، والعمل بمقتضاها في المستقبل.
وأشار:” إستثمر نتنياهو وبن غفير وسموتريتش العملية العسكرية لإضافة رصيد سياسي يمكِّن الحكومة الحالية من تحقيق أربعة أهداف رئيسية: الأول هو الصمود في مواجهة ضغوط شعبية قوية تفرضها حركة الاحتجاج السياسي الواسعة النطاق ضد مشروع التعديلات القضائية. وقد اضطرت القوى المشاركة في الحركة لإعلان تعليق المظاهرات التي كانت مقررة في 13 مايو، لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تتوقف فيها حركة الاحتجاجات الأسبوعية التي بدأت في 7 يناير الماضي، ووصلت إلى ذروة جديدة بانضمام اتحاد العمال واعلان الاضراب العام يوم 27 من مارس الماضي. الهدف الثاني هو التغلب على عوامل الانقسام داخل الحكومة بشأن التعديلات القضائية، وتغليب ضرورة الوحدة على عوامل الانقسام الناتجة عن الخلاف حول التعديلات. وكانت الأزمة الوزارية في هذا الخصوص قد بلغت ذروتها قبل العملية العسكرية بأسابيع قليلة، عندما أصدر نتنياهو قرارا بإقالة يؤاف غالانت وزير الدفاع في 26 مارس الماضي، لكنه تراجع عن القرار. الهدف الثالث هو تعزيز قوة التيار الصهيوني الديني المتطرف، الذي يدعو إلى تكثيف الاستيطان حول قطاع غزة، ومواصلة الضغط العسكري على القطاع، إلى حد الدعوة لاستعادته عسكريا، وإدانة قرار أرييل شارون بالانسحاب من طرف واحد. أما الهدف الرابع فهو تنفيذ ضربة جديدة ل “قطع الرؤوس” في إطار استراتيجية الردع العسكري الإسرائيلية ضد “سرايا القدس” ، باغتيال قائمة من قيادات الصف الأول العسكرية. هذا الهدف لا يعني تدمير تنظيم الجهاد الإسلامي تماما، لكنه يكتفي بإضعافه، في إطار استراتيجية الردع التي تتضمن أهدافها تفتيت الإرادة الفلسطينية سياسيا وعسكريا.
و أ وضح أنة يبدو من ظاهر الأمور أن الحكومة الإسرائيلية حققت أهدافها الأربعة بدرجات مختلفة. نتنياهو قال إن الهدف العسكري المتمثل في اغتيال الدفعة الأولى من قيادات السرايا قد “تحقق في ثانيتين”، وأنه في نهاية العملية العسكرية وافق على “وقف إطلاق النار مقابل وقف إطلاق النار”. الجنرال (احتياط) “تامر هامان” مدير معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي التابع لجامعة تل أبيب قال في تلخيص الموقف منذ بداية العملية العسكرية على موقع المعهد يوم 9 من الشهر الحالي، إن الهدف الاستراتيجي لعملية “الدرع والسهم” تحقق بالضربة الأولى للعملية باغتيال قادة سرايا القدس الثلاثة، جهاد الغنام قائد القطاع الجنوبي في غزة، و خليل البهتيني قائد القطاع الشمالي، و طارق عز الدين الذي يعتبر مسؤولا عن التنسيق مع فصائل المقاومة الأخرى والدعم الشعبي في الضفة الغربية. العملية من وجهة نظره لم يتم تنفيذها في إطار رد فعل غاضب على هجوم “إرهابي” أو إطلاق الصواريخ (من الجانب الآخر)، ولكنها تعتبر مبادرة ذات هدف محدد، وليست لمجرد الإنتقام.
وأوضح هامان أن هذه هي العملية العسكرية الثالثة التي تستهدف تنظيم الجهاد الإسلامي على وجه الخصوص، وأن السؤال المهم بالنسبة لإسرائيل كان يتمثل فيما إذا كانت حماس ستنضم إلى “الجهاد الإسلامي” في الرد عسكريا أم لا. ومع أن قيادة حماس أعلنت أنها على استعداد للمشاركة في الرد، إلا أنها لم تتدخل فعلا، بما يطابق موقفها في العمليتين السابقتين. هذا الموقف يؤكد نجاح احد عناصر استراتيجية الردع الإسرائيلية بمواجهة الفصائل الفلسطينية كل منها على انفراد، إلى جانب أن هامان اعتبرها عملية استباقية للتوتر الذي يترافق مع “يوم القدس”.